أستند محمد إلى يده اليمنى , وقلع جسمه من حصباء الغار , ثم استعدل قواه إلى حد ما بعد أن فقدها خلال الدقائق العصيبة التي مرًّ بها , وأقام عوده المضني ليجرّه إلى ربعه ونادية وهناً على وهن. وقف على رجليه , وهمًّ بتعديل برديته , ثم وطأ الأرض ليخرج من (حراء).
الليلة هذه كانت كسابق الليالي , والسماء , والنجوم , والهلال الهزيل , وجبل حراء , والسفح الجنوبي منه , ومكة , لم تبدُ مختلفة عما سبق , لكن على ما يبدو أن في تلك الدعة , وذاك السكوت الظاهري جيشان ....غليان , وكأن وراء الكواليس مخاض عجيب .
أستعاد قلب الكون نبضاته, بعد أن توقفت قبل قليل دقاته , أنتعش العالم العتيق , واشتعلت شبيبته بعد سكوت مقيت, توقفت الحياة في شرايين الأرض , واستعادت الطبيعة المنطلقة من سكوت مميت حياتها من جديد, تنفست الصعداء بزفير وشهيق عميق, فقد تخلّصت من بغتة الموت, انسلخت فيها عن شرنقتها البالية القديمة , وبدأت عيشها الجديد .
كأن في السماء اختلاف ورواح, والفضاء مفعم بالزمازم, وفيها الراح . والجبل والصفا والشوك والتراب, يهمس البعض في أذن البعض الأسرار .
- سلا م عليك, يا مصطفى الله.
يدير محمد رأسه هنا وهناك , إلا أنه لا يرى إلا الطبيعة المعهودة الصامتة : جبل حراء بعنفوانه الصلد الأسفع , وفي جنوبه سلسلة تلال محيطة بمكة , وعلى جانب آخر تمتد الجبال حتى يثرب , عبر وديان وسهول بطحاء جرداء , ومن الشمال تنتهي تلك الجبال إلى ميناء جدّة حيث شواطيء البحر الأحمر , وفي جانب آخر سهول عرفات وربوع منى , ومدينة الطائف .
الطبيعة مخيّمة على كل مكان , راقدة في أحضان الليل الحالك بصمت , راكدة في أعماقها , راكنة إلى أسرارها , دون أن تحمل على ظهرها كائناً ينطق.
يئن محمد من جسم مثقل , أعياه مالا طاقة له به , يحمله في ممر جبلي وعر , نحو الهضبة , يخطو خطوات وئيدة , تنثني خلالها أحياناً ركبتاه من ثقل ما يحمل . يستحضر عجيب ما سمع من كلام , ويجيله في خاطره مع كل خطوة يخطوها متمتماً:
] اقرأ بسم ربك الذي خلق , خلق الإنسان من علق , اقرأ وربك الأكرم ...[
فيطمئن قلبه , إلا أنه كان يشعر بالعياء في الروح والجسد , نعم , الروح والجسد , كلاهما لم يستعدا بعد لهذا الارتباط الصعب - الغريب , ارتباطاً لا طاقة لمحمدبه ولا لغيره – تحمل ضغوطاً كثيرة, ظن حينها أن روحه بلغت الحلقوم فعرجت إلى آفاق شاسعة , ثم نالت عظمة واستيعاباً أكبر فتلقى النداء من ذاك العالم الروحي الناصع بكل كيانه , وحنانيته , وعلى رغم هبوب نسيم عليل , في منتصف ليل خريفي, كان يتلهّب في حماه, من رأسه إلى أخمص قدميه , يسيل من صفحته المتلألئة , جرف عرق رفيع ، يجري بين حاجبيه المزججين نحو عرنينه الأشم , لكن معاناته هذه لم تكن تعادل ما اعترى قلبه من الرعب والهلع . ولولا بكاؤه المنفجر لكان قلب محمد يطير أو ينخلع, عما سوف تتمخض ألاعيب المصير ... ؟
اغتلي قلق كبير في كيانه , فهيج خلده , وأشعل جنانه . ترى , هل سيبلى بلاء حسناً في فتنته الكبرى هذه ؟
فكر في معاناته , وانتظاره المرّ الطويل على مدى السنين المتطاولة . الانتظار على وشك الانتهاء , ترى هل يطيق مواجهة تلك الحقيقة , الناصعة , الخالدة , التي طالما استشرف اليها شوقاً , والتاع في لهيبها وجداً ؟ فإذن لماذا لا يشعر الآن بالفرح , ولا يتلمس في كيانه الجذل ولماذا عشعش فيه القلق والفزع ؟؟
ركن
إلى سفح الجبال , فشعر فجأة بتغير مرموز فيما حوله , ورأى في أفق السماء حيث يلتقي
دوماً مع الأرض نوراً أثيرياً ساطعاً , خيّم على الفضاء بأسره , حدّق النظر فيما
كان يسطع , فرأى ذاك الكائن السماوي الذي رآه فيما سبق , وقد ملأ حضوره عينيه ,
وسدّ عليه آفاق النظر . ترى أفي يقظة ما يرى؟
أدار رأسه يمنة , يا للعجب ... لقد كان هناك أيضاً , متمثلاً أمامه رجلاً سويا , في روعة فريدة , وهيبة أثيرية , كأنه صافن على ألف جناح . خطواته عريضة , في كل أفق رسّخ قدماً , كأنه شرّق بقدم على أفق من آفاق السماء , وغرّب بالأخرى .
أينما يولّي طرفه , فثمًّ وجه صاحبه بقسماته وسكناته..
حل فيه قلق جديد وهلع
.
ترى - رب – من هو ؟ ماذا يريد من محمد !؟
دوى في السماء فجأة ذاك الصدى السماوي الملهم , فالتحم بروح محمد :
- يا محمد .... أنت رسول الله , وأنا ملكه المرسل , جبرائيل.
- ماذا ...!؟
- يا محمد .... أنت رسول الله , وأنا ملكه
المرسل , جبرائيل .
ربّ ِ .... ماذا كان يطرق سمعه ؟ هل صحيح ما يسمع !؟
- يا محمد .... أنت رسول الله , وأنا ملكه المرسل , جبرائيل .
لا , لا أضغاث ولا أحلام , بل هي اليقظة والحقيقة بعينيها.
بعد فترة من السكوت , قضى خالق الكون - مرة أخرى - أن
يكلّم عباده , وقد اصطفاه وهو من بينهم, إذا كان أصلا ً لمناجاته , وإبلاغ نداءا
ته . آه هذا أكبر مما كان يتوقع , وفي تلك اللحظات ذاتها كانت روحه لا تسع ما يسمع .
محمد راضٍ بما ناله من الهدى والسداد , إلا أنه يعزّ عليه دوماً شقاء الناس والضلال . ترُى أينهض على خير وجه بما أنيط إليه ... مسؤولية كبيرة، غير متواضعة, بل هي مضنية, تقصم الظهر, إذ أنها مسؤولية إرشاد البشرية جمعاء وهدايتهم , وستبقى على عاتقه ما دبًّ الأنام على وجه الأرض.
همّه , هم الإنسانية جميعاً , لا هم هذا وذاك . مصير البشرية وهدايتها هو الهم الذي لا ينال , إلا بالتحطيم , تحطيم ألذات , والذوبان في الآخرة , وسير من ألذات إلى الإله , ومن الإله إلى الخلق والكائنات . ما أصعبه !.
محمد يعيش في ازدواجية , ازدواجية الفرح والحزن , الأمل والخوف , اليقين والشك , المرارة والحلاوة . ماذا عساه أن يفعل , وهو متفرق بين طمأنينة السنوات المتطاولة وما حلّ اليوم فيه من القلق العميق . الكائن السماوي الجليل قد ذهب , والمبعوث الجديد في خيرة , يتثبت في خضّم من مختلف المشاعر .
النبي الملتهب بحماه , ترتعد فرائصه مما هاج به , قد نكس الرأس في ذهول وهزال , وهو يطأ سفوح حراء .
أخذ لا يتحمل حتى ما كان يحب , من السكينة والعزلة , في أحضان الطبيعة . فيتمنى الآن أن يعود إلى دار أمانه , ومأواه إلى جانب زوجته خديجه , إذ لم يكن يطيق وحده أن يتحمل كل هذا الوجد والقلق والهيجان .
كان عليه في سرعة أن يجد من يبث له أسراره , ويشاطره شجونه وآلامه , فيعينه في حمل باهض أعبائه .
ليت الفرسخين – المسافة بين حراء حتى حي الأبطح – كانت أقصر , أو ليته كان يلاقي بعض أحبائه ليلقي معه المسافة السحيقة هذه .
في تلك الليلة , زينب ورقية , تقاسمتا الفراش معي وعلي راقد في غرفة تالية , متصورة ً أن أبا القاسم سيظل في غار حراء , قطعت لسان المصباح , وقمت لأرقد وأنام . ما أن مضت ساعة , حتى فزعت من نومي بغتة , دون أن أعرف السبب والدليل .
بين اليقظة والنوم , غلبني شعور غامض , يوحي إلي أن زوجي في مكان بعيد بعيد يستنصرني, فزدت شديد قلق وأضطراباً عليه . تصورت في بداية الأمر أن الليل بكوابيسه المفزعة , وحلكته الموحشة كان هو الدليل . إلا أن شيئاً فشيئاً طغى عليًّ القلق , فتيقنت أن أبا القاسم في مكان ما يستغيثني من أعماق قلبه.
انتظرونـا في الجـزء الثـاني
_________________________________________________________________
"لهذا العمل قيمةٌ عظيمةٌ تستحقُّ العمل، وبذل المساعي، وإن طال العقدان
من الزمن ولم تأتِ بغيره".
بهذه العبارات توجّه سماحة القائد علي الخامنئي حفظه الله لكاتب
رواية "ها هو اليتيم بعين الله" محمد رضا سرشار ، والتي تتناول حياة
النبي محمد صلى الله عليه وآله من الولادة المباركة إلى البعثة الشريفة.
وقد قدّم الكاتب والناقد محمد رضا سرشار الرواية بأسلوب بديع،
فالبناء العام للرواية متقنٌ للغاية ويتّصف بالعالمية، وقد استطاع نقل القارئ إلى عالم
القصة في كل تفاصيلها، بجذبةٍ روحيةٍ عاليةٍ اختلطت بروحيته العالية، فيدرك القارئ
من خلال هذه الرواية كيف أنّ نبيَّ الإسلام الذي ولد يتيماً ونشأ يتيماً، إنّما
كان في الحقيقة بعين الله وحده ينشأ، وعلى يديه جلَّ وعلا يُصنع.
وفي الأحداث المترابطة والمتسلسة لهذه الرواية يوجد شتى أنواع الصراعات، ويوجد معلومات تاريخية جمّة، قُدِّمت أيضاً بأسلوب شيّق. فالكاتب البارع مزج بين التأريخ والأدب، ليكوّن صورة فنية أنيقة.
في الرواية ينقلك الكاتب إلى مجتمع مكة وجاهليته، ومعاناة أهل الخير فيه والصراعات التي يعيشها هؤلاء، ويقرّبك من شخصية عبد المطلب، فتذوب مع الكاتب بودّه، وتذوب حباً بأم النبي آمنة وبأبيه عبد الله، وعمّه أبو طالب، والحمزة، وتتعرّف من جديد على حليمة السعدية فكأنك ما عرفاتها من قبل، وترقّ لذكر خديجة، ويضطرب قلبك في عشق علي..
إنك تقرأ كأنك تشاهد فيلماً سينمائياً دقيق التفاصيل، مترابط الأحداث، متسلسلاً.. والقارئ للمجلد الأول ينتظر حتماً - بفارغ الصبر - انتهاء تعريب المجلد الثاني..
- ننصح بقراءة هذه الرواية -
لقد جذبني الاسلوب الرائع في صياغة الوقائعاتمنى صدور الروايه وقد ترجمت للغه العربيه لنتايع مع هذا الكاتب المحترم تفاصيل روايته لحياة رسول الله صلى الله عليه واله لقد ابكتني هذه المقدمه وجذبتني لدرجة احسست انني مع محمد صلى الله عليه واله ومع جبرائيل ومع خديجه وتوجسها بكيت لحال النبي صلى الله عليه وأله وما اعتراه قصه تقربنا بشكل كبير من نبينا من خلال وصفه الذي يلامس القلوب2015-01-09 12:09:19 |
بتوقيت بيروت